في مساء اليوم التالي يجلس العمدة أمام الدوار مستنداً على عصا برأس تشبه الثعبان ، شارد الفكر ورأته نوارة فقلقت عليه ، لأنه لم يكن على هذه الحالة من قبل ، فذهبت اليه حتى تتحدث معه وتجعله يفصح عن قلقه،قائلة مبتسمة مقبلة على الدنيا بأمل وتفاؤل : كيف حال العمدة اليوم ؟، وتجلس أمامه لتشغله عن ما يعكر صفوه ،وينظر لها أبيها نظرة استسلام للهزيمة لم تراها من قبل ، فشعرت بغصة تعتصر قلبها ، فاقتربت من أبيها قاطبة الجبين سائلة : ما بك يا حبيبي ، ليست عادتك ؟
يجيبها : أفكر في مصيركن بعد وفاتي؛ وسط الغابة وحدكن،
تأخذ نوارة نفساً عميقاً بأريحية تجاه أبيها مبتسمة :وماذا يقللك في ذلك ، ألم تعلم بأنك أنجبت رجالاً ،
وتلعب بأصابعها في خصيلات شعر أبيها المنسدلة من تحت العمامة وتكمل حديثها بدلال على أبيها : بالضرورة ليسوا ذكوراً وإنما رجالاً.
يرد عليها أبيها : أعلم بنيتي لكنى أخشى سطو رجال الزمام وقسوتهم عليكن وأنتم القوارير
مكملة حديثها قائلة : وماذا عن الشاب الملثم ؟
يرفع أبيها عيونه لها قائلا : شاب زينة الشباب ،
يا ليته كان ولدي .
ترد نوارة : أعتبره ولدك ، أما صحيح يا أبي لو لم تكن أنت العمدة ، من كنت تتمنى أن يكون العمدة؟
أجاب العمدة بتهنيده طويلة تفصح عن مكنون صدره : هذا الشاب الملثم ونظر لنوارة نظرة أمل في الغد كأنه يتمناه زوجاً لابنته.
نوارة : متى موعد تجديد العمودية بالتزكية ؟
أجابها أبيها :بعد جمعتين،
صمتت نوارة لتفكر قليلا قائلة : وما رأيك بأن أرشح نفسي للعمودية؟
يجيبها أبيها : أخاف عليكي الذئاب يابنيتي ؟
قالت : أتخاف على الفهود من الذئاب؟
قال : الخير يقدمه الله، مستكملاً الحديث أبيها : إلا في حالة واحدة ، اذا كنتِ متزوجة من رجل قوي ، يكون في ظهرك ، لا أخاف عليكِ، نظرت نوارة للأسفل بخجل قائلة : إذن زوجني !
نظر لها أبيها قائلاً : ومن في الزمام يناسبك ؟
أجابت : أريد رجلاً متعلماً مثلي ،فلاح ابن فلاح ، رجلاً بمعنى الكلمة وشخصيته قوية، تنهد أبيها تنهيدة طويلة محركاً رأسه بقبول كلامها ، مردفاً حديثه :مثل هذا الشاب الملثم .
قائلة نوارة : واذا طلب يدي منك هذا الشاب ستقبل ؟!
أجابها أبيها : أتمنى هذا ، هذا ما أتمناه .
غداً يرتبها الله ، جاء يوم الجمعة والجميع يستعد لتزكية العمدة مرة أخرى للعمودية ، لكن شئ ما يتسلل لنفس العمدة ، يريد أن يسلم العمودية لابنته في حياته حتى لا تُهاجم من أحد مثل ابن عتريس .
كما يعلم أن رجال الزمام سيرفضون هذه الخطوة دون أن تتزوج نوارة ، ويدخل الغفير هلال قائلاً : يا حضرة العمدة في ضيف يريد أن يقابلك
العمدة : من يا ولد ؟
الغفير هلال: بيه طول وعرض ويرتدي بدلة
العمدة : أدخله للمجلس، هم العمدة بالوقوف ولم يكمل إفطاره ، متلفتا على نوارة لم يجدها لتحضر اللقاء ،
فاستسلم للوضع ودخل المجلس يلقى السلام على الضيف، واقفا الضيف احتراما للعمدة ، قائلا له العمدة مدققا نظره في هيئته ووجاهته: اتفضل يا بيه .
الضيف : لا بيه ولا حاجة يا حضرة العمدة
يرفع العمدة عينيه للضيف لصوته المحبب للعمدة كأنه سمعه من قبل .
قائلا الضيف: جئت للحديث معك في موضوع مهم .
العمدة : اتفضل ؛ لكن نتعرف أولا ويزيدنا شرف.
الضيف : جئت لطلب القُرب منك في ابنتك الاستاذة نوارة.
تفاجأ العمدة بطلب الضيف ، بعيون زائغة ، ولسان متلعثم ،قائلا : ماذا ؟ شرف لنا يا بيه لكن من أنت ؟ ملامحك ليست من هنا ولكن صوتك كأنني سمعته من قبل.
الضيف : المستشار بركات محمد بركات
العمدة : بركات ....!!
يستكمل الضيف حديثه : نعم يا عمدة من عائلة البركات من زمام ما بعد الجنينة .
أحس العمدة بأن دعاء قلبه قد أُجيب ، فأعاد الترحيب بالضيف ، قائلاً : لن تشرب شيء يا بيه
وقام مناديا لهلال : يا ولد الشاي.
مستكملا حديثه : وهل رأيت نوارة بنتي؟
الضيف : نعم يا حضرة العمدة
فهي طالبة عندي بالجامعة ، وتعلم أخلاق الفلاحين، فجئت ادخل البيت من بابه .
العمدة : هناك ولد نيابة عن ال بركات يحضر مجالسنا ، هل يقرب اليك ؟
الضيف : نعم يا حضرة العمدة ، فقد سمعت عن اشكالية العمودية ، وعداء ال عتريس ، وهذا ما جعلني أحضر مجلسك ملثماً ، حتى أظهر الحق على الباطل في وجه ابن العتريس، فانا أعرفه جيداً ابن خالي ، ودائما من وقوع المشاكل بين العائلتين ، لنسب قديم نتج عنه نقل نصف ما يملكوه من أراضي لعائلة بركات.
العمدة : وما هذا النسب ؟
الضيف : أمي يا عمدة من عائلة عتريس ،ولما وقفت في وجه أخيها لتأخذ ميراثها وقد أخذته بالقانون ومن يومها والعداء كبير بيننا ، أومأ العمدة برأسه قبولا للحديث ، نعم الميراث هو ما يزرع المشاكل بين الأخوة .
الضيف : واليوم جئت لأطلب يد كريمتك للزواج .
العمدة تظهر عليه الراحة مبتسما للضيف ، شرف لنا يابني ، لكن أنجز اشكالية أولا اليوم وبعد ذلك نتحدث .
الضيف : لا اشكالية يا عمدة ، تعلم أن لي الحق بالترشح للعمودية ، لكن دائما ما كان أبي رحمة الله عليه يقول لي أن أنسب رجال للعمودية عائلة سالم لما يحوذونه من أصل وكرم ورجاحة عقل ، ومعرفتهم بأمور العمودية جيدا لذلك لا يجب أن تخرج العمودية منكم .
وهذا ما جعلني أحضر المجلس ملثماً.
اقترب موعد المجلس ، ويدخل الغفير هلال قائلاً : يا حضرة العمدة قد جاء الزوار ،وبدأ الرجال يدخلون المجلس واحدا تلو الأخر، ودخل ابن العتريس ، وعندما رأى المستشار ابن عمته . وكأنه ركبه عفريت ، لكن لم يستطع أن يهمس بكلمة واحدة حتى لا يقل من قيمته ،وأيضاً من أصول الفلاحين عدم التحدث في وجود كبيره المستشار ، وبدأ العمدة بالحديث ، قائلاً :
اليوم شرفنا بالحضور المستشار بركات من الجنينة طالبا يد بنتنا نوارة، وتعلو الأصوات في المجلس ترحيباً بالضيف ،
ويخرج صوت من الجالسين لأخ العمدة:
يا أهلا وسهلا بابن بركات ، أصل وسيرة طيبة ، نظر العمدة لأخيه مبتسماً ، تعلم يا أخي أنك أفضلنا في معرف أنساب العائلات في الزمام كله .
أجابه أخيه : وها انا اثني عليه وعلى أصله الطيب المشرف.
ويزداد ابن العتريس غيظا ، ولم يهنأ له مكان ، يستكمل أخ العمدة الحديث موجهاً حديثه للمستشار : ومن المؤكد أنك تعلم قرابتك لآل عتريس، موجهاً وجهه لابن عتريس قائلاً : ألم تبارك لابن عمتك يا عتريس ؟
يقف ابن عتريس شيطاً وغضباً ، لكن العمدة يسرع لإنقاذ الموقف حتى لا تقلب الفرحة غما بسبب غضب ابن عتريس،
قائلاً موجها نظره لابن العتريس : اجلس يا بن عتريس فقد طلب مني قريبك نسبي ، ولم أعطيه الرد حتى أخذ رأيك و أصلحكما على بعض ، سوف يصبح بيننا نسبا ، كما سيقتسم العمودية مع زوجته، أمعن عتريس نظره في العمدة وفكر في الأمر سريعا ظنا منه بأن بزواج بركات من بنت العمدة ستنتقل العمودية لأقاربه، ومن السهل أخذها، فتوجه لبركات مباركا له ، قائلا متباهيا بنسب إبن عمته : شرف لنا يا عمدة نسبكم ، وسيادة المستشار ابن عمتى قيمة لا تقل عن قيمة آل سالم .
ابتسم العمدة والحضور ، وأشار العمدة للمستشار أن يبادر بمصافحة ابن خاله ، ولم يكذًب المستشار خبرا ، فقام بمصافحة ابن خاله ، ضاربا بكفه على كتفه ، تشجيعا له وتقديرا له ، الذي طالما كان يشعر بصغر هيبته بسبب الفقر القديم لآل عتريس وأن عائلته حديثة الثراء وليست أصيلة كباقي العائلات ، قائلا المستشار للجميع أن والدته من عائلة عتريس أغنى العائلات في الزمام وشرف له أن ال عتريس أخواله، ويبتسم ابن عتريس رافعا هامته متباهيا بقريبه المستشار ، وبمدحه في عائلة عتريس، كما فرح العمدة لما صارت له الأمور، فقد تحققت كل أمانيه في جلسة واحدة ، عريس نوارة الوجيه المستشار وتخلص من أذى ابن عتريس للأبد، وقد استقر قلبه بعد قلق وخوف على العمودية،
واطمئن أن للأصول مسار لا تتنحى عنه ابدا ، وأن من يتمسك بها لا يضيع و لا يتوه وإن كثرت السبل ، كما الأخلاق لا يعلو عليها شيئا، ويا حبذا لو امتزجت الأخلاق بالعلم وبالأصول، سينتج عنها توليفة ترفع شأننا، وتنهض بأمتنا التى شاخت أصالتها وتاهت في مفترق الطرق عندما تنازلت عن أخلاقها ونست أصولها ، نسأل الله السلامة لها ورفع رايتها بالأخلاق والعلم والأصول.